فصل: فصل في شروط المروءة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في شروط المروءة:

قال العلماء: وللمروءة شروط فِي نفس المرء وشروط فِي حق غيره:
فأما شروطها فِي حق نفسه بعد التزام مَا أوجبه الشرع من أحكامه فيكون بثلاثة أمور: وهي العفة والنزاهة والصيانة.
فأما العفة فنوعان أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المآثم.
فَيَا نَفْسُ صَبْرًا إِنَّمَا عِفَّةُ الْفَتَى ** إِذَا عَفَّ عَنْ لَذَّاتِهِ وَهُوَ قَادِرُ

فأما العفة عن المحارم فنوعان، أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام كالزنا واللواط.
والثاني: كف اللسان عن الأعراض كالقذف والسعاية والنميمة والغيبة والكذب والاستهزاء ونحو ذلك. مما قَدْ كثر فِي زماننا بسبب التلفزيون والفيديو والتلفون المذياع فلهذا ينبغي الابتعاد عن الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح قال بعضهم:
لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيْدُ شَيْئًا ** سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيْلَ وَقَالَ

فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إِلا ** لأخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَال

آخر:
النَّاسِ دَاءٌ دَفِيْنٌ لا دَوِاءَ لَهُ ** الْعَقْلَ قَدْ حَارَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُنْذَهِلُ

إِنْ كُنْتَ مُنْبَسِطًا سُمِّيتَ مَسْخَرَةً ** أَوْ كُنْتَ مُنْقَبِطًا قَالُوْا بِهِ ثِقَلُ

وَإِنْ تُوَاصُلِهُمْ قَالُوا بِهِ طَمَعٌ ** وَإِنْ تُقَاطِعَهُمْ قَالُوْا بِهِ مَلَلُ

وَإِنْ تَهَوَّرَ يَلَقُوْهُ بِمَنْقَصَةٍ ** وَإِنْ تَزْهَدْ قَالُوْا زُهْدُهُ حِيَلُ

آخر:
لِقَاءُ أَكْثَرُ مَنْ تَلْقَاهُ أَوْزَارُ ** فَلا تُبَالِ أَصَدُّوا عَنْكَ أَوْزَارُوْا

لَهُمْ لَدَيْكَ إِذَا جَاؤُكَ أَوْ طَارُ ** فَإِنْ قَضَوْهَا تَنَحُّوْا عَنْكَ أَوْ طَارُوا

فأما ضبط الفرج عن الحارم فلأن عدمه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة فاضحة وإثم واضح، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من وقي شر ذبذبة ولقلقة وقبقبة فقد وقي». وفي رواية: «فقد وجبت له الجنة». والمراد بالذبذب الفرج وبلقلقه لسانه، وبقبقبة بطنه.
والداعي إِلَى الوقوع فِي الحرام شيئان إرسال الطرف والثاني إتباع الشهوة وَقَدْ تقدم الكلام عَلَى النظر المحرم فِي [ص 209]:
لَيْسَ الظَّرِيْف بِكَامِلٍ فِي ظُرْفِهِ ** حَتَى يَكُونَ عَنْ الْحَرَامِ عَفِيفَا

فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمَ رَبِّهِ ** فَهُنَاكَ يُدْعَى فِي الأنَامِ ظَرِيْفَا

ومن ذلك ترغيب النفس فِي الحلال عوضًا عن الحرام وإقناعها بالمباح بدلاً من المحرم فإن الله مَا حرم شيئًا إلا وأغنى عنه بمباح ليكون ذلك الإغناء عونًا عَلَى الطاعة، وحاجزًا عن المخالفة، قال عمر رضي الله عنه: مَا أمر بشيء إلا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه.
مَا أَقْبَحَ الْعِرْضُ مَدْنُوسًا بِفَاحَشَةٍ ** يَخُطُّهَا اللَّوْحُ أَوْ يَجْرِي بِهَا الْقَلَمُ

وَالْحُسْنُ لا حُسْنَ فِي وَجْهٍ تَأَمَّلُهُ ** إِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ الأخْلاقُ وَالشِّيَمُ

وَلِلْشَّبِيْبَةِ بُنْيَانُ تُكَمِّلُهُ ** لَكَ الثَّلاثُوْنَ عَامًا ثُمَّ يَنْهَدِمُ

ومن ذلك إشعار النفس تقوى الله فِي أوامره، واتقاؤه فِي زواجره وإلزامها مَا ألزم من طاعته، وتحذيرها مَا حذر من معصيته وإعلامها أنه لا يحفى عليه فِي الأرض ولا فِي السماء ولا بينهما كما قال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
وأنه يجازي المحسنين بإحسانه كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وأنه يجزي المسيء بما عمل كما قال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وبذلك نزلت الكتب وبلغت الرسل.
وَقَدْ ورد أن آخر مَا نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} قال فِي مِنْهاج اليقين شرح أدب الدنيا والدين: فإذا أشعر صاحب الشهوة مَا وصفت من الأمور انقادت أي النفس إِلَى الكف وأذعنت بالاتقاء فسلم دينه من دنس الريبة وظهرت مروءته.
وأما كف اللسان عن الوقوع فِي الأعراض، فالوقوع فيها ملاذ السفهاء، وانتقام أهل الغوغاء والسفلة. قلت: وإلى هذا أشار أبو الطيب فِي قوله: مع أنه لَمْ يعمل بقوله فقد اغتاب وقذف الأبرياء.
وَأَكْبِرَ نَفْسِي عَنْ جَزَاءٍ بِغِيبَةٍ ** وَكُلُّ اغْتِيَابٍ جُهْدُ مَنْ لا لَهُ جُهْدُ

وهو مستسهل الكلف إذا لَمْ يقهر نفسه عنه برادع كاف وزاجر ساد تلبط بمعارة وتخبط بمضاره فهلك وأهلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام». فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِي الحرمة بين سفك الدم، وهتك العرض، لما فيه من إيغار الصدور بالحقد وإبداء الشرور وإظهار البذاء.
قال بعض الحكماء: إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال.
وأما العفة عن المأثم فنوعان: أحدهما الكف عن المجاهرة بالظلم والثاني: زجر النفس عن الأسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك، وطغيان متلف للمجاهر.
قال الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله تعالى يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا فإن الله يقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم}».
والباعث عَلَى المجاهرة بالظلم الجرأة والقسوة، والصاد عن ذلك رؤية آثار غضب الله تعالى فِي الظالمين، وأن يتصور عواقب ظلمهم وأما الاستسرار بالخيانة فدناءة ولآمة.
وأما النزاهة فنوعان أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية. والثاني: زجر النفس عن الإسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو وطغيان.
عَلَيْكَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا ** وَبِرِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَبِرِّ الأبَاعِدِ

وَلا تَصْحَبَنْ إِلا تَقِيًّا مُهَذَّبًا ** عَفِيفًا زَكِيًّا مُنْجِزًا لِلْمَوَاعِدِ

وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا مُؤْدَّبًا ** فَتَى مِنْ بَنِي الأحْرَارِ زَيْنِ الْمَشَاهِدِ

وَكُفَّ الأذَى وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاتَقِي ** فَدِيَّتُكَ فِي وُدِ الْخَلِيْلِ الْمُسَاعِدِ

وَغُضَّ عَنْ الْمَكْرُوْهُ طَرْفَكَ وَاجْتَنِبْ ** أَذَى الْجَارِ وَاسْتَمْسِكْ بِحَبْلِ الْمَحَامِد

وَكُنْ وَاثِقًا بِاللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ ** يَصُنْكَ مَدَى الأيَامِ مِنْ شَرِّ حَاسِدِ

وَبِاللهِ فَاسْتَعْصِمْ وَلا تَرْجُ غَيْرَهُ ** وَلا تَكُ لِلنَّعْمَاءِ عَنْهُ بِجَاحِدِ

وَنَافِسْ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْعُلَى ** بِهِمَّةِ مَحْمُودِ الْخَلائِقِ مَاجِدِ

وَلا تَبْنِ فِي الدَّنْيَا بِنَاءَ مُؤَمِّلٍ ** خُلُودًا فَمَا حَيٌّ عَلَيَهَا بخَالِدِ

وَكُلُّ صَدِيقٍ لَيْسِ للهِ وُدُّهُ ** فَنَادِ هَلْ بِهِ مِنْ مُزَايِد

اللهم استر مَا بدا منا من العيوب وأمنا يوم الشدائد والكروب، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فصل فِي بر الوالدين وتحريم عقوقهما:

البر: الصلة والحسنة والخير، وفي المطالع فِي قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الصدق يهدي إِلَى البر». البر اسم جامع للخير، وعق الولد أباه إذا آذاه وعصاه وخرج عليه: بر الوالدين فريضة لازمة وعقوقهما حرام، ولا ينكر فضل الوالدين إلا المتوغل فِي النذالة والآمة.
ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات عَلَى مَا قاموا به نحوهم من الطفولة إِلَى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالد مملوكًا فيشتريه فيعتقه كما فِي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه». رواه مسلم.
فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه عَلَى العباد نعم، لا تحصى كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الايلاد والتربية الصالحة، والعناية التامة بالأولاد، وأكبر الخلق وأعظمهم نعمة عَلَى الإنسان بعد رسل الله والده اللذان جعلهما الله سببًا لوجوده واعتنيا به منذ كان حملاً إِلَى أن كبر.
فأمه حملته شهورًا تسعًا قي الغالب تعاني به فِي تلك الأشهر مَا تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل فإذا آن وقت الوضع وأجاءها المخاض، شاهدت الموت، وقاست من الآلام مَا الله به عليم فتارة تموت، وتارة تنجو ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع كان الأمر سهلاً ولكن يكثر النصب ويشتد بعده قال الله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ثم ترضعه حولين كاملين غالبًا فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، تضيق أحشاؤها وقت حمله بالطعام والشراب. وتضعف عند الوضع أعضاؤها.
ثم بعد ذلك صياح بالليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما، ويتعب قلبيهما، ويذرف دموعهما، ومرض يعتري الولد من وقت لآخر، تنخلع له قلوبهما انخلاعًا وتنهد به أبدانهما هدًّا.
وتعهد من الأم لجسمه بالغسل، ولثيابه بالتنظيف، ولإفرازاته بالإزالة، لا يومًا ولا يومين، ولا شهرًا ولا شهرين ولا سنةً ولا سنتين هي به ليلها ونهارها فِي متاعب ومشاق، تصغر بجانبها متاعب المؤبدين فِي الأعمال الشاقة.
يضاف إِلَى ذلك امتصاصه دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لك يكن مِنْه لهدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها إلا هذا الامتصاص لكفى.
فإذا شب وبرزت أسنانه، وقويت معدته عَلَى قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له، انفتح لوالديه باب الفكر والكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شؤونه، وبرما احتملا ألم الغربة والسفر إِلَى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد.
وكثيرًا مَا يضحي الوالدان براحتهما فِي سبيل راحة الأبناء والبنات، والطفل يعرف أمه ويحبها قبل كل أحد فإذا غابت صاح حتى تأتيه وإذا أعرضت عنه دعاها وناحها بما يقدر عليه من كلام أو غيره وإذا أصابه شيء يؤلمه استغاث وناداها، يظن أن الخير كله عندها وأن الشر لا يخلص إليه مَا دامت تضمه عَلَى صدرها وترعاه بعينها وتذب دونه بيديها.
ولذلك هي مقدمة فِي الحضانة إذا فراقها زوجها ولم تتزوج حتى يميز ويختار من شاء مِنْهمَا كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: يا رسول الله أن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له جواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينتزعه مني فقال: «أنت أحق به مَا لَمْ تنكحي». رواه أحمد وأبو داود.
ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به أن خرج تعلق به وإذا حضر قعد عَلَى حجره، مستندًا عَلَى صدره، وإذا غاب سأل عنه وانتظره، يرى أنه إذا رضي أعطاه مَا يريد وإذا غضب ضربه وأدبه، يخوف من يؤذيه بأبيه، وأي حب واحترام بعد هذا، ولكن يا للأسف سرعان مَا ينسى الجميل وينكر المعروف ويلتفت إِلَى زوجته وأولاده.
ولذلك لا يحتاج الآباء إِلَى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأولاد إِلَى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب والديهم نحوهم.
قَضَى اللهُ أَنْ لا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ حَتْمًا ** فَيَا وَيْحَ شَخْصٍ غَيْرَ خَالِقِهِ أَمَّا

وَأَوْصَاكُمُوا بِالْوَالِدَيْنِ فَبَالِغُوا ** بِبِرِّهِمَا فَالأجْرَ فِي ذَاكَ وَالرَّحْمَا

فَكَمْ بَذَلا مِنْ رَأْفَةٍ وَلَطَافَةٍ ** وَكَمْ مَنَحَا وَقَتْ احْتِيَاجِكَ مِنْ نُعْمَا

وَأُمُّكَ كَمْ بَاتَتْ بِثِقْلِكَ تَشْتَكِي ** تُوَاصِلُ مِمَّا شَقَّهَا الْبُؤْسَ وَالْغَمَّا

وَفِي الْوَضْعِ كَمْ قَاسَتْ وَعِنْدَ وِلادِهَا ** مُشَقًّا يُذِيْبُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَالْعِظْمَا

وَكَمْ سَهِرَتْ وِجْدًا عَلَيْكَ جُفُونِهَا ** وَأَكْبَادُهَا لَهْفًا بِجَمْرِ الأسَا تَحْمَى

وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِيْنِهَا ** حُنُوًّا وَإشْفَاقًا وَأَكْثَرَتِ الضَّمَّا

فَضَيَّعْتَهَا لَمََّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً ** وَضِقْتَ بِهَا زَرْعًا وَذَوَّقْتُهَا سُمَّا

وَبِتَّ قَرِيْرَ الْعَيْنِ رَيَّانَ نَاعِمًا ** مُكِبًّا عَلَى اللَّذَاتِ لا تَسْمَعُ اللَّوْمَا

وَأُمُّكَ فِي جُوْعٍ شَدِيْدٍ وَغُرْبَةٍ ** تَلِيْنُ لَهَا مِمَا بِهَا الصَّخْرَةُ الصَّمَا

أَهَذَا جَزَاهَا بَعْدَ طُوْلِ عِنَائِهَا ** لأَنْتَ لَذُوْ جَهْلِ وَأَنْتَ إِذًا أَعْمَى

آخر:
فَلا تُطِعْ زَوْجَةً فِي قَطْعِ وَالِدَةٍ ** عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَخِيْ قَدْ أَفْنَتِ الْعُمُرَا

فَكَيْفَ تُنْكِرُ أُمًّا ثُقْلُكَ احْتَمَلَتْ ** وَقَدْ تَمَرَّغْتَ فِي أَحْشَائِهَا شُهُرَا

وَعَالَجَتْ بِكَ أَوْجَاعَ النِّفَاسِ وَكَمْ ** سُرَّتْ لَمَّا وَلَدَتْ مَوْلُدِهَا ذَكَرَا

وَأَرْضَعَتْكَ إِلَى حَوْلَيْنِ مُكْمِلَةً ** فِي حَجْرِهَا تَسْتَقِيْ مِنْ ثَدْيِهَا الدُّرَرَا

وَمِنْكَ يُنْجِسُهَا مَا أَنْتَ رَاضِعُهُ ** مِنْهَا وَلا تَشْتَكِي نَتْنًا وَلا قَذَرَا

وَقُلْ هُوَ اللهُ بِالآلافِ تَقْرَؤُهَا ** خَوْفًا عَلَيْكَ وَتُرْخِي دُوْنَكَ السُّتُرَا

وَعَامَلَتْكَ بِإِحْسَانٍ وَتَرْبِيَةٍ ** حَتَى اسْتَوَيْتَ وَحَتَى صِرْتَ كَيْفَ تَرَى

فَلا تُفَضِّلْ عَلَيْهَا زَوْجَةً أَبَدًا ** وَلا تَدَعْ قَلْبُهَا بِالْقَهْرِ مُنْكَسِرَا

وَالْوَالِدُ الأصْلُ لا تُنْكِرْ لِتَرْبِيَةٍ ** وَاحْفَظْهُ لاسِيَّمَا إِنْ أَدْرَكَ الْكِبَرَا

فَمَا تُؤَدِّيْ لَهُ حَقًّا عَلَيْكَ وَلَوْ ** على عُيُوْنِكَ حَجُ الْبَيْتِ وَاعْتَمَرَا

اللهم وفقنا لحبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إِلَى حبك وألهمنا ذكرك وشكرك وأعمر أوقاتنا بطاعتك وحل بيننا وبين معاصيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وَقَدْ أمر الله جل شانه بالإحسان عَلَى الوالدين فِي آيات من القرآن الكريم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
وَقَدْ فضل سبحانه وتعالى مَا يجب من الإحسان إِلَى الوالدين بقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} الآيتين المعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إِلَى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك فِي آخر العمر كما كنت عندهما فِي أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه على أن الفضل للمتقدم.
ويتجلى ذلك بأن تتبع معها أمورًا خمسة أولاً تتأفف من شيء تراه وتشمه من أحدهما أو مِنْهمَا مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك فِي صغرك واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ثانيًا: أن لا تنغض ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول عَلَى سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما.
ثالثًا: أن تقول لهما قولاً كريمًا أي حسنًا طيبًا مقرونًا بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة كأن تقول: يا أبتاه أو يا والدي ويا أماه أو يا والدتي ولا تدعهما بأسمائهمَا ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يتل القرآن من لَمْ يعمل به، ولم يبر والديه من أحد النظر إليهما فِي حال العقوق أولئك برآء مني وأنا مِنْهُمْ بريء». رواه الدارقطني.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة فِي قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: إن أغضباك فلا تنظر إليهما شزرًا، فإنه أول مَا يعرف به غضب المرء شدة نظره إِلَى من غضب عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قيل له: إِلَى مَا ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحد النظر إليهما. واعلم أن النظر إليهما بعين الحنو والعطف والشفقة والتفقد لما يكرهان فهذا لا بأس به كما أن غض الطرف عنهما كراهة عقوق قال الشاعر فِي ابنه:
يَوَدُّ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ** وَلَوْ مُتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ مَقَاتِلُهْ

إِذَا مَا رَآنِيْ مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ ** كَأْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِيْ يُقَابِلُهُ

رابعًا: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتها لك وجميل شفقتهما عليك.
خامسًا: أن تتواضع لهما وتذلل وتطيعهما فيما أمراك به مَا لَمْ يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إِلَى بذل مَا يطلبان منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما إذ هما قَدْ احتاجا إِلَى من كان أحوج الناس إليهما أيام كان فِي غاية العجز عن أي مصلحة من مصالحه بحيث لو غفل عنه والده قليلاً من الزمن لهلك.
وعَلَى الجملة فقد أكد جل وعلا التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاها أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما فِي سلك القضاء بهما معًا، وَقَدْ ورد فِي بر الوالدين أحاديث كثيرة، من ذلك أن رجلاً جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه فِي الجهاد معه فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد».
ومن ذلك مَا رواه مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ومن ذلك مَا روي عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إِلَى الله ورسوله قال: «الصلاة عَلَى وقتها». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين». قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد فِي سبيل الله».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة». رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك عَلَى الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال: «فهل من والديك أحد حي؟» قال: نعم بل كلاهما. قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى؟» قال: نعم. قال: «فارجع إِلَى والديك فأحسن صحبتهما». متفق عليه.
وأخرج ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله مَا حق الوالدين عَلَى ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك».
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يمد له فِي عمره ويزاد فِي رزقه فليبر والديه وليصل رحمه». رواه أحمد والبيهقي بسند رجاله رجال الصحيح، وأصله فِي الصحيحين باختصار.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك عَلَى الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما». رواه أبو داود.
قال الناظم:
وَيَحْسُنُ تَحْسِيْنٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ ** وَلاسِيَّمَا لِلْوَالِدِ الْمُتَأَكْد

وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ ** سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لأمْرٍ مُؤَكَّدِ

كَتِطْلاب عِلْمٍ لا يَضُرُّهُمَا بِهِ ** وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ

وَأَحْسِنْ إِلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ** فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّد

وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده». وعن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى إِلَى موسى صلوات الله وسلامه عليه يا موسى وقر والديك، فإن من وقر والديه مددت فِي عمره، ووهبت له ولدًا يوقره ومن عق والديه قصرت فِي عمره ووهبت له ولدًا يعقه.
وذكر فِي الآداب الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما رد الله عقوبة سليمان عن الهدد لبره كان بأمه. وقال عكرمة: إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد إنه كان بارًا بوالديه ينقل إليهما الطعام فيرزقهما. انتهى.
وقصة الهدهد على مَا قيل عنها هي أنه لما توعده سليمان بقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وذلك أنه لما فقده لأجل الماء، فدعا سليمان عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه.
ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليَّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك عليّ إلا رحمتيني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إن نبي الله حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى. قال: {لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}.
فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا فلما دنا مِنْه أخذ رأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان عليه السلام وعفا عنه. انتهى.
والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم.